مقال: سنان جمال


 رواية الحي اللاتيني مرآة الانسان العربي في أروبا


إن لكل كاتب غاية في نفسه وهدف ورسالة من كتابة أي عمل أدبي كيف ما كان، الشيء الذي يجعلني كقارئ و كباحث في الرواية أن أقف وقفة تأملية في إحدى الصور الواضحة والجلية في رواية الحي اللاتيني ألا وهي صورة الانسان العربي في أروبا.


يوم حملت هذه الرواية بين يداي متأملا سطورها و أراء أدباء كبار بصموا الادب العربي بأناملهم على غلافها وهو الشيء الذي جذبني اليها ولعل رأي نجيب محفوظ من أكثر الآراء التي دفعتني الى التساؤل عن هذه الرواية وما تنطوي عليه من دلالات حينما قال " الحي اللاتيني معلم من معالم الرواية العربية الحديثة "  فهذا جعلني أقول في نفسي أنني أمام عمل أدبي عربي أصيل يستحق القراءة و الفهم و التأمل واحساس يستهويني الى اتمامها ومتابعة أحداثها حرفا حرفا وكلمة كلمة وخوف يخالجني من أن اضيع صورة أو حدثا من أحداثها.

إن قراءة و فهم أي عمل أدبي يختلف من قارئ الى آخر الشيء الذي ينطبق بالأساس على هذا العمل الأدبي فما سأقوم بكتابته انطلاقا من فهمي قد يبدو مبهما عند قارئ آخر في حين قد يرى ذاك القارئ صورة تكون مبهمة بالنسبة لي.

إن المتأمل في الرواية " الحي اللاتيني " سيرى بشكل واضح صورة الانسان العربي في أروبا عامة و فرنسا خاصة، وقد مثل سهيل ادريس لهذه الصورة بشخصيات مثقفة ذهبت من وطنها لاستكمال مسارها العلمي في تخصصات متعددة في وطن آخر أبرزها استكمال أطروحة دكتوراه في الأدب العربي و التي تمثلت في الشخصية الرئيسية للرواية.

إن الانتقال من وطن اصل بثقافته و تقاليده و عاداته و دينه إلى وطن غير الأصل له ثقافة غير ثقافة الوطن الأصل و عادات مختلفة وحياة مغايرة يستوجب الانصياع و التأقلم مع كل ما يفرضه هذا الأخير حتى يتأتى لهذا الذي سيغادر وطنه الى وطن آخر غير وطنه لمهمة من المهام تجاوز الصعاب التي لطالما لازمته في بلاده وكذا اكتساب تجارب جديدة في الحياة. يقول سهيل ادريس في الرواية " ينبغي لك أن تبلو الحياة و تجربها في أعمق مجالاتها، أ فيكون إطار الحياة في شرقك ذاك أضيق من أن تجدي فيه هذه التجارب ؟"

إن ممارسة الحياة في الوطن العربي مختلفة تماما عن ممارستها في أروبا وذلك بنوع من الحرية الكافية دون اغلال و اخفاقات فشخصيات الرواية وجدت ما ابتغته من التعمق في كل مناحي الحياة وفضلت ذلك على ما تعيشه في وطنها الأصل في غياب للإنسانية و ظروف العيش البسيطة يقول سهيل ادريس" كأنهم ألقوا أثقال الرصانة التي كانت ترهق اكتافهم في بلادهم و شعروا شعورا عميقا بأنهم مدعوون الى أن يسوقوا في باريس حياة مطلقة لا يحد من حريتها قيد، فاستجابوا لهذه الدعوة بكل ذرة من ذرات وجودهم و خلفوا وراءهم ماضيهم ".


{ فكانت هذه نقطة تصوير أساسها تحرر الإنسان العربي في أروبا من قيود المجتمع التي قيدته و كبدته فتأتى له تفريغ مكبوتاته و الاستجابة لنزواته و شهواته و عواطفه }  _جعفر لعزيز_ 25_8_2018


تصور رواية الحي اللاتيني جانبا آخر من جوانب الحياة وهي العلاقة بين الرجل و المرأة في الوطن العربي من جهة و في أروبا من جهة أخرى ففي الوطن العربي هي علاقة مبنية على الحرمان و الحب المنحرف و مبنية على ضوابط تحددها التقاليد و الأعراف و الدين فالعلاقة بين الرجل و المرأة هنا تقف عند الزواج لا شيء غيره، لكن في حين عند الغربيين عكس هذا تماما فالعلاقة بين الرجل و المرأة هناك ليست حبا منحرفا ولا ذخرا من العاطفة المكبوتة وهذا يبين مدى انسجام الانسان العربي مع هذا النمط العلائيقي بأروبا وفي الرواية نجد أدلة واضحة على تلك الصداقات التي أقامها المثقف العربي طوال إقامته هناك يقول سهيل ادريس:" أما هنا في الغرب فإن الصداقة .. لا ليس لك أن تحكم بعد فأنت لم تعرف صداقات الغربيين فيما بينهم على أن بوسعك أن توقن بأن الصداقة ليست حبا مكبوتا اصابه الانحراف ".

فمن هذا يمكننا القول على أن العلاقات التي اقامتها شخصيات الرواية وغيرها في أروبا هي علاقات مبنية على تعويض ما مضى من الحرمان العاطفي و العاطفة المكبوتة أساسها تقديس الجسد لا تقديس العاطفة و الروح يقول سهيل ادريس:" إن تلك الصداقات لا تقوم حقا على أساس من المحبة الخالصة انما تقوم على أساس الحرمان المتبادل، الحرمان المنتصب حدا فاصلا بين المرأة و الرجل ..."

إن رواية الحي اللاتيني تظهر جليا كيف يسعى الانسان العربي الى البحث عن ذاته هناك وتحقيق ما لم يجده متوفرا في وطنه الأصلي من الاستمتاع بالحياة بشتى مظاهرها فأروبا قد اعطته الحرية و كسرت قيوده التي ظل مكبلا بها في وطنه يقول سهيل ادريس:" اننا نحن جميعا، نحن الشباب العرب ضائعون يفتشون عن ذواتهم بأنفسهم ولا بد أن نرتكب كثيرا من الحماقات قبل أن نجد أنفسنا ..."


إن هذه الرواية رغم مرور أزيد من ستين سنة على صدورها إلا أنها لو قرأت اليوم لحاكت الواقع الذي يعيشه العربي بأوربا في كثير من جوانبها. 



سنان_جمال

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قَلبي كجسدٍ عارٍ.../بقلم/ الشاعرة روز ميرزو

على شاطئ نهر الفيزر..... /بقلم/ حسين السالم

ما قبلّ منتصف الليل../بقلم/ الشاعرة روز ميرزو